الأربعاء، ١٠ فبراير ٢٠١٠

الاختيار ضرورة بيولوجية

الاختيار ضرورة بيولوجية


ما يميزني أنا كإنسان عن غيري من الأحياء هو قدرتي على الاختيار . ولهذا سببٌ تشريحي لا مجال لشرحه الآن . لكنني أكتفي بالقول بأن دماغي البشري اكتسب – خلقا أو تطوراً – طبقات جديدة من الخلايا مكنتني من الإنفلات من سجن الأنماط الحياتية التلقائية المتكررة التي جُبلت عليها الأحياء الأخرى من حيوانات و نباتات وطيور وحشرات وديدان وكائنات بدائية مجهرية .



أصبحت قائمة خياراتي - بفعل هذا التغيير البنيوي في دماغي الإنساني - غير محدودة - نظرياً على الأقل . ومع أن جسدي لا يزال يحتفظ بغرائزه البدائية اللازمة لحفظ النوع ، إلا أنني أتحكم – لدرجة كبيرة – في إدارتها : يلزمني النوم ، لكني أنام ساعة أشاء "وعلى الجنب اللي يريحني" .. أجوع ، لكني آكل حتى مع شبع .. ببدائية مقرفة أو بإتيكيت "مسز بوكيه" المفرط .. أمارس طقوس التوالد ، ولكن بعشوائية لذيذة حولت كوكب الأرض إلى مقلب كبير للقمامة . أعيش في قطيع ، لكنني أسميه مجتمع ، له طقوس وعادات أسميها تقاليد وقوانين وأديان . هذا أنا في أحد تجلياتي .. مخلوق أقف على قمة هرم التطور البيولوجي بفعل قدرتي المكتسبة على الإختيار .. من أجل البقاء لا أتكيف مع محيطي كما فعلت وتفعل باقي الأحياء ، لكني أكيف محيطي حسب رغباتي . قدرتي على الإختيار هذه أورثت عندي ملكة الإبتكار فأنتجتُ تنوعاً ماديا رائعا أستحق لأجله لقب "ملك الكائنات الحية" بلا منازع .

لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد . فبالإضافة إلى تتويجي "ملكا للكائنات الحية" ، أنتجت هذه الإضافة البسيطة في دماغي إحساسا جديدا ينعدم فيما عداي من الأحياء . لم يعد الأمر بالنسبة لي مجرد وجود فحسب بل تولد عندي إحساس بهذا الوجود .. صرت أشعر بوجودي ، بل صرت أشعرُ بشعوري بوجودي . لقد اكتسبتُ "بصيرة" حولتني من مجرد حيوان فائق التطور إلى "قيمة" . أوجدت عندي إحساسا بأنني "قيمة" تتسامى على الوجود المادي . قيمة أثيرية تتسرب خلال الحواجز لتمتد إلى فضاءات لا متناهية .. عبر الزمن وغيره من الأبعاد التي ندركها أو تلك التي لا ندركها . قيمة تتجلى إبداعاً أدبيا في أشعار العشاق وحماسيات الوطنيين .. في رثائيات المكلومين وهجائيات الساخطين .. تتجلى أخلاقيا في الصدق والرحمة والاحترام .. تتجلى اجتماعيا في حسن الجوار والتعاون ومراعاة الذوق العام . احساس دائم التوهج .. سعي متنام إلى بلوغ درجات أعلى من الكمال .. توق محموم إلى العدالة والمساواة والحرية . هذا أنا في تجل آخر من تجلياتي ... كتلة من القيم المجردة .. لكنها قيمٌ تخضع لمبدأ الاختيار الذي أوجده ذلك التغيير التشريحي في دماغي . فلكل قيمة في هذه الكتلة نقيض يمكنني اختياره .. الظلم بدلا من العدل .. الكذب بدلا من الصدق .. الاستعباد بدلا من الحرية .


وقد يسأل أحدهم : هل هذه القيم المجردة – مع أصالتها في البنية الإنسانية - ضرورات بيولوجية لازمة لحفظ النوع شـأنها شأن الغذاء والشراب والهواء والتزاوج ؟ أم هي مجرد أعراض جانبية لذلك التغيير الدماغي ظهرت على شكل إضافات ولمسات تجميلية (أو تشويهية) وهي بالتالي لا تساهم في حفظ النوع البشري ؟


المؤكد عندي شخصيا أن الإختيار (أو القدرة عليه) لازمة بيولوجية أصيلة لا يمكن محوها ... وللحديث بقية !

هناك ٥ تعليقات:

رحمة آل خليفين يقول...

مبروك بدابه جنون التدوين!!!

مقال رائع وعميق جدا

انتظر بقيه الحديث

صُعْــــلوْكْ يقول...

مو خْباااار؟

جميييييل ولكني أشم رائحة معاوية الرواحي.. هنا

خيارات يقول...

مرحبا صعلوك
لم أكن أعلم أن رائحة معاوية بهذا الجماااااال .
أشكرك .

خيارات يقول...

مرحبا رحمة
جنوني بدأ منذ زمن . فقط أصبح الآن علنيا .
أشكرك

MisS Do0oDi يقول...

مدونة تستحق المتابعة !