سوق الخيارات
توصلت في مقالي السابق إلى استنباط مفاده أنني - وبسبب تغيير طرأ على تركيبة دماغي - أصبحت مسؤولاً عن تسيير حياتي وتحديد مصيري ، بينما بقيت مخلوقات أخرى تعيش في عالم من القوالب والأنماط المتكررة لا تحيد عنها ولا تعي غيرها . وقد وهبني هذا التغيير صفة جديدة وهي القدرة على الإدراك والإحاطة بوجودي . كما أورثني رفضا تلقائيا للقوالب الجاهزة التي خلفتها ورائي ، مستبدلا إياها بملكة الإختيار . باختصار لقد أصبحت حراً . الحرية إذاً خاصية ولدت بها ولم أكتسبها ، ولا يمكن لأحد – أياً كان - أن يدعي بأنه تفضل علي بها . قد يحرمني منها كما يحرمني الطعام والشراب ، لكنه لن يستطيع أن ينتزعها من تكويني .
ماذا يعني أن أكون حراً ؟
للإجابة على هذا التساؤل ، أرتكز على افتراض مفاده أن ما حدث يعد تطوراً نوعياً في الخلق . أي أنني كائن أكثر تطوراً من باقي الكائنات الحية . وهناك من الأدلة على ذلك الكثير .. انتصاب جسدي .. حجم دماغي .. استخدامات أصابع يدي .. هذا من الناحية التشريحية . أما معنوياً فهناك ليس فقط حجم ما أنتجته من آداب وعلوم بل قدرتي على تأمل انتاجي وإعادة تقييمه . لا مفر إذاً من الإقرار بتميزي الخلقي .
لا يعنيني هنا التميز الجسدي الذي قد تفوقني في بعض أوجهه كثير من الحشرات والديدان ، والذي يفقد أهميته بالنسبة للإنسان بمجرد النظر إلى جسد عالم الفيزياء البريطاني ستيفن هوكنج (Stephen Hawking) . ما يعنيني هو ذلك التميز الدماغي الذي وهبني حرية تنعدم فيما عداي من المخلوقات . حريتي إذاً هي سبب تميزي .. بدونها أتقهقر في سلم المخلوقات .. أفقد تميزي .
إذاً .. أن أكون حراً يعني بالضرورة أن أكون مبدعاً .. أو على الأقل أن يكون بمقدوري أن أبدع . والعكس صحيح .
وهنا يطرح التساؤل التالي نفسه : لماذا تقرر مجموعات من البشر – وقد كُتب لها الخروج من دائرة الأنماط البدائية الرتيبة التي تعيشها باقي الكائنات – العودة طوعاً إلى طريقة العيش البدائية هذه ؟ لماذا تقرر طوعاً التخلي عن حريتها وتميزها ومصدر إبداعها ؟ لماذا تخترع الأديان ذات الطقوس النمطية الرتيبة ؟ لماذا تشرع القوانين والأنظمة التي تقولب الفعل الإنساني ؟ لماذا يلتزم الناسك البوذي بلبس رداء برتقالي اللون طوال حياته ثم يعيش عالة على جيرانه يأكل ما يلقون به في سلته ؟ لماذا يختار "السيخي" العيش طوال حياته في قرف ، من دون أن يقتلع شعرة من جسده ؟ لماذا تصر النساء في عُمان على ارتداء عباءات سوداء تمتص أشعة الشمس في صيف مسقط القاتل فتحول أيامهن جحيما بينما يقرر الرجل بأنانية بالغة وكأنه "شمتان" أن يلبس دشداشة بيضاء تعكس أشعة الشمس فتخفف من حدتها ؟ لماذا هذا التقهقر الذي يبدو للوهلة الأولى منافيا للفطرة ؟ المدهش في الأمر أن كثيرا من هذه الممارسات – إن لم يكن جميعها – تُعد عند من يعتنقها وسيلة للسمو والارتقاء . تضمن للبعض الخلود في النعيم ، وتوصل البعض الآخر إلى النيرفانا ، وتوحد أرواح آخرين مع ذرات الكون الفسيح . هل هو هروب من الحرية أم هو تجل مُفرط لممارسة حق الاختيار ؟ أليس من حقي أن أختار العودة الى ممارسة الحياة النمطية ؟
أشك في أن يكون الأمر فعلاً بهذه البساطة ؟
وللحديث بقية !!